"اموات" اكتشف بعد عشرات السنين بانهم قابعون في السجون السورية
نشرت صحيفة الغد الأردنية الصادرة يوم السبت 9/12/2006 قصة الفلسطيني أحمد محمود الشايب.. المعروف أنه متوفى منذ أكثر من 37 عاماً.. وعُرف قبل أيام قليلة أنه نزيل أحد السجون السورية في مدينة اللاذقية.. وقد تجاوز عمره الثالثة والسبعين.
نحن السوريون اعتدنا على مثل هذه الأخبار.. فصفحة النظام السوري الذي أتى به حفنة من الضباط المغامرين فجر يوم الثامن من آذار 1963 مليئة بآلاف الحوادث المشابهة.. سواء كانت مع السوريين أو العرب.
وأنا شخصياً سمعت من رفيق سفر قصة شبيهة بمثل قصة الشايب.. وقد حدثت تلك القصة مع والده قبل عشر سنوات تقريباً.. ورفيق سفري كان أردنياً وروى لي ما حدث مع أبيه قائلاً:
درست في بغداد، وتخرجت من جامعتها حاملاً البكالوريوس.. وعدت إلى أهلي الذين فرحوا بعودتي فائزاً بالشهادة الجامعية.. وفي غمرة فرح الأهل بي.. أصرت أمي على زواجي لتكتمل الفرحة.. ولم أخيب رجاء أمي فقبلت حتى بمن اختارتها لي.
بعد فترة قليلة من زواجي أخبرنا والدي أنه ينوي السفر إلى دمشق.. لقضاء بعض الوقت للاستجمام كعادته في كل عام.. وكان في حينها قد تجاوز الستين من عمره.. ودّعنا الوالد الذي استقل سيارة أجرة ميمماً وجهه نحو دمشق.
مضى على غياب الوالد نحو أسبوعين دون أن يتصل بنا على غير عادته.. فقررنا الاتصال بكل أرقام الهواتف التي نعرفها.. والتي من الممكن أن يكون قد زار بعض أصحابها للعلاقة الحميمية التي تربطه بهم.. ولكننا كنا نفاجأ في كل اتصال بجواب واحد: لم نلتقي معه أبداً ولم نره.
في اليوم التالي حزمت أمري وتوجهت إلى دمشق.. ورحت من ساعة وطئت قدماي المدينة أبحث عنه في الفنادق والمستشفيات ومراكز الأمن دون أن أجد له أي أثر، أو تَعرّفَ عليه أحد.
عدت إلى عمان حاملاً الخيبة والحزن والألم.. والتقيت مع الأهل وقصصت عليهم كل ما جرى معي.. فكان يوم حزن لف الأسرة والأقرباء والأصدقاء.
ومضت الأيام والشهور.. ونحن نرجو أن يطل علينا الوالد فجأة.. ولكن دون جدوى.. فقد فقدنا عميد أسرتنا والخيمة التي كنا نستظل بها.
وقررت العائلة احتساب أمره إلى الله وإعلان وفاته.. وأقمنا يوم عزاء.. وأجرينا عملية الوفاة رسمياً.. وتوزعنا ميراث الأب المفقود.
ومضى على هذا الحال نحو اثني عشر سنة لأفاجأ في ساعة متأخرة من ليل أحد الأيام بالهاتف يرن.. أخذت السماعة.. وإذ بصوت من بعيد يسأل: هل هذا بيت فلان؟ - أي والدي - قلت: نعم أنا ابنه فلان.. من المتكلم؟ قال: أنا فلان أحدثك من مدينة أربد.. والدك بخير وهو يسلم عليكم. لم أستوعب ما قاله للوهلة الأولى.. استويت في جلستي وقلت: والدي متوفى منذ زمن بعيد.. رد علي قائلاً: والدك بخير وحي يرزق وقد تركته يوم أمس.. هو موجود في سجن صيدنايا في دمشق.
تمالكت نفسي من أثر الصدمة.. وصحت فرحاً.. والدموع تنهمر من عيني.. وضحكة هستيرية تصاعدت من فمي.. لم أستطع حبسها: والدي حي.. والدي حي.
هدأت قليلاً وقلت للمتصل معي: هل بإمكاني أن آتي إليك الآن؟ قال: أهلاً وسهلاً.. وأعطاني عنوانه بالتفصيل.
أيقظت أمي وزففت لها الخبر.. فلم تتمالك نفسها فقد كانت الصدمة أقوى من أن يحتملها جسدها الذي هده الحزن. وأضناه فرقة رفيق العمر.. واتصلت بأخوتي وأخواتي وأخبرتهم بأن والدي لا يزال حياً.
انطلقت بسيارتي إلى أربد حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل.. ولم أجد نفسي إلا وأنا أمام بيت صاحبي.. فقد طويت المسافة بسرعة.. استقبلني صاحبي معانقاً.. ورحب بي أيما ترحيب.. وراح يصف لي هيئة والدي.. طوله.. حركاته تقاسيم وجهه.. حديثه.. واطمأننت لكل ما قاله لي.. وتأكد لي أن والدي هو حقيقة حي يرزق.
بعد الضيافة السريعة.. أعطاني عنوان سجن صيدنايا.. ودلني على طريقة الوصول إليه.. وأوصاني بأن أحمل كمية من النقود السورية لأنني سأحتاجها هناك.
في اليوم التالي توجهت إلى دمشق.. حاملاً معي نحو عشرين ألف ليرة سورية.. وتخطيت الحدود الأردنية - السورية.. وتوجهت فور وصولي إلى دمشق إلى إدارة السجون.. حيث حصلت على بطاقة زيارة لأتمكن من مشاهدة والدي.. ويممت وجهي نحو سجن صيدنايا.
وصلت السجن.. ودخلت من فوري إلى غرفة الإدارة.. حيث كان يجلس خلف المكتب ضابط برتبة عالية.. ممتلئ الجسم.. كث الشارب.. متجهم الوجه.. ومن حوله عدد من الضباط.. تقدمت إليه وأبرزت له بطاقة الزيارة.. فأخذ سجلاً كبيراً وراح يقلب صفحاته.. ثم التفت إلي قائلاً وقد رمى لي البطاقة بقرف: ليس لدينا سجين بهذا الاسم.
وجمت للحظات وقلت: هذه البطاقة تثبت وجوده عندكم.. فنهرني وصاح في وجهي: أخرج بره.
خرجت من الغرفة وأنا عاقداً العزم على رؤية والدي مهما كلف الثمن.. فوقفت غير بعيد من غرفة الإدارة.. وإذ بنائب ضابط يربت على كتفي قائلاً، وكان مترهل الجسم ومنتفخ البطن: أتريد أن ترى والدك؟ قلت: نعم. قال: لازم تدفع. قلت له: ولمن أدفع؟ قال: لمدير السجن. قلت: وكيف؟ قال: ضع ألف ليرة داخل بطاقة الزيارة وقدمها له.. وانسى أنه طردك من الغرفة قبل قليل، ولا تنساني من الحلوان.
فعلت كما أمرني نائب الضابط.. ودخلت غرفة الإدارة.. وبيدي البطاقة وقد حشوتها بألف ليرة.. وقدمتها لمدير السجن.. الذي أخذ البطاقة مني وفضها وأخرج ما فيها من نقود ودسهم في جيبه.. ثم نادى الحاجب وقال له: خذه إلى أبيه.. وخارج الغرفة كان ينتظرني نائب الضابط ماداً يده وهو يقول: البخشيش.. فأعطيته مئة ليرة فرفض فأعطيته مئتين فسكت.
وبالفعل تم اللقاء من وراء شبك حديدي.. فشاهدت أبي وقد هدّته سنون الاعتقال.. فقد ترهل جسمه.. وشحب وجهه.. وكانت خطواته بطيئة.. متقوس الظهر.
بعد اللقاء القصير مع والدي.. وقد تأكدت بأن والدي حياً.. عدت إلى مدير السجن ودموع متحجرة في مآقي قائلاً له: أما من طريقة للإفراج عن أبي؟ أجابني: طبعاً ولكن هذا يكلفك.. قلت: وماذا يكلفني؟ قال: (80) ألف ليرة.. فإذا كنت مستعد لدفعها فستأخذ أبيك معك الآن.. وكان يقول ما يقوله على مرأى ومسمع من الضباط الحضور.. قلت له: ليس معي الآن سوى (15) ألف ليرة.. قال: هاتها واجلب الباقي.
قدمت له الخمسة عشر ألف ليرة.. فعدها ثم دسها في جيبه.
عدت إلى عمان وجهزت باقي المبلغ بعد أن أكدت لأمي وأخوتي وأخواتي أن والدي حي يرزق.. وقد شاهدته بأم عيني.
في اليوم التالي كنت في غرفة مدير السجن.. فتعجب للسرعة التي عدت فيها، وقال: أحضرت الباقي؟ قلت: نعم، وناولته المبلغ فعده وتأكد منه ثم فتح درج المكتب وألقاه فيه.. ونادى الحاجب وأمره بأن يَفرج عن والدي.. فقد صدر عنه عفو خاص.
اصطحبني الحاجب إلى خارج الغرفة.. وقبل أن يدخل إلى مكان وجود والدي التفت إلي قائلاً: هات خمسمائة ليرة.. قلت له: لماذا: قال: حلوان خروج أبوك، فأعطيته المبلغ دون نقاش.. فدخل وبعد دقائق خرج ومعه والدي.. فاندفعت إليه بعفوية.. وضممته إلى صدري أقبله ويقبلني.
اصطحبت والدي الميت الحي وعدت به إلى عمان.. واستقبلنا الأهل والأقرباء والأصحاب والجيران بعراضة كبيرة.. بين زغاريد النساء وترحيب الرجال.. فقد أحيا الله الميت بعد اثني عشر سنة.. وعرفت من والدي بعد ذلك أنه صدر عفو عنه.. ولكن مدير السجن أبقاه ولا يعرف سبباً لذلك.. أما أنا فقد عرفت السبب.. إنه الجشع والابتزاز.
صاحب هذه القصة لا يزال حي يرزق.. وهو من عائلة معروفة في عمان.
No comments:
Post a Comment